فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعلى الاحتمال الثاني: فهو تمثيل لحالة إضمارهم العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم في نفوسهم وتمويه ذلك عليه وعلى المؤمنين به بحال من يثني صدره ليخفيه ومن يستغشي ثوبه على ما يريد أن يستره به.
وهذا الاحتمال لا يناسب كون الآية مكية إذ لم يكن المشركون يومئذٍ بمصانعين للنبيء صلى الله عليه وسلم وتأويلها بإرادة أهل النفاق يقتضي أن تكون الآية مدنية.
وهذا نقله أحد من المفسرين الأولين.
وفي أسباب النزول للواحدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة وكان رجلًا حُلو المنطق، وكان يظهر المودة للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو منطو على عداوته، أي عداوة الدين، فضرب الله ثني الصدور مثلًا لإضماره بغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو تمثيل وليس بحقيقة.
وصيغة الجمع على هذا مستعملة في إرادة واحدة لقصد إبهامه على نحو قوله: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] قيل فإنه هو الأخنس بن شريق. ووقع في صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذه الآية فقال: كان ناس من المسلمين يستخفون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزلت هذه الآية.
وهذا التفسير لا يناسب موقع الآية ولا اتساق الضمائر. فلعل مراد ابن عباس أن الآية تنطبق على صنيع هؤلاء وليس فعلهم هو سبب نزولها. واعلم أن شأن دعوة الحق أن لا تذهب باطلًا حتى عند من لم يصدقوا بها ولم يتبعوها، فإنها تَلفت عقولهم إلى فَرض صدقها أو الاستعداد إلى دفعها، وكل ذلك يثير حقيقتها ويُشيع دراستها.
وكم من معرضين عن دعوة حق ما وسعهم إلا التحفز لشأنها والإفاقة من غفلتهم عنها.
وكذلك كان شأن المشركين حين سمعوا دعوة القرآن إذْ أخذوا يتدبرون وسائل مقاومتها ونقضها والتفهم في معانيها لإيجاد دفعها، كحال العاصي بن وائل قال لخباب بن الأرَتّ حين تقاضاه أجرَ سيف صنعه فقال له: لا أقضيكه حتى تكفر بمحمد.
فقال خَباب: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يحييك.
فقال العَاصي له: إذا أحياني الله بعد موتي فسيكون لي مال فأقضيك منه.
فنزل فيه قوله تعالى: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالًا وولدًا} [مريم: 77].
وهذا من سوء فهمه لمعنى البعث وتوهمه أنه يُعاد لما كان حاله في الدنيا من أهل ومال.
والاستخفاء: الاختفاء، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب واستأخر.
وجملة: {ألا حين يستغشون ثيابهم} إلخ يجوز أن تكون إتمامًا لجملة: {ألا إنهم يثنون صدورهم} متصلة بها فيكون حرف: {ألا} الثاني تأكيدًا لنظيره الذي في الجملة قبله لزيادة تحقيق الخبر، فيتعلق ظرف (حين) بفعل: {يثنون صدورهم} ويتنازعه مع فعل: {يَعلم ما يسرون} وتكون الحالة الموصوفة حالة واحدة مركبة من ثني الصدور واستغشاء الثياب.
والاستغشاء: التغشي بما يُغْشي، أي يستر، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل قوله: {واستغشوا ثيابهم} [نوح: 7]، مثل استجاب.
وزيادة: {وما يعلنون} تصريح بما فهم من الكلام السابق لدفع توهم علمه بالخفيات دون الظاهر.
وجملة: {إنه عليم بذات الصدور} نتيجة وتعليل للجملة قبله، أي يعلم سرهم وجهرهم لأنه شديد العلم بالخفي في النفوس وهو يعلم الجهر بالأوْلى.
فذات الصدور صفة لمحذوف يُعلم من السياق من قوله: {عَليم} أي الأشياء التي هي صاحبة الصدور.
وكلمة (ذات) مؤنث (ذو) يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} [الأنفال: 43] وقوله: {وأصلحوا ذات بينكم} في سورة [الأنفال: 1].
والصدور مراد بها النفوس لأن العرب يعبرون عن الحواسّ الباطنية بالصدر.
واختيار مثال المبالغة {وهو عليم} لاستقصاء التعبير عن إحاطة العلم بكل ما تسعه اللغة الموضوعة لمتعارف الناس فتقصر عن ألفاظٍ تعبر عن الحقائق العالية بغير طريقة استيعاب ما يصلح من المعبرات لتحصيل تقريب المعنى المقصود.
وذات الصدور: الأشياء المستقرة في النفوس التي لا تعدوها.
فأضيفت إليها. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} يبين تعالى في هذه الآية الكريمة. أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسرن والآيات المبينة لهذا كثيرة جدًان كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقوله جل وعلا: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه} [البقرة: 235] وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} [يونس: 61] الآية. وزلا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
تنبيه مهم:
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظًا أكبر، ولا زاجرًا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون. وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر. والزاجر الأعظم مثلًا ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملكًا قتّالا للرجال، سفّاكاَ للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلمًا، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دمًا، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحدًا من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟! لا، وكلا! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفًا من بطش ذلك الملك.
ولا شك [والله المثل الأعلى] أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علمًا، وأعظم مراقبة، وأشد بطشًا، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه. فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه، خشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا.
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملًا، ولم يقل: أيهم أكثر عملًا، فالابتلاء في إحسان العلم، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] الآية.
وقال في الملك: {الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العزيز الغفور} [الملك: 2].
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلي أي يختبر: بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أخبرني عن الإحسان»، أي وهو الذي خلق لأجل الاختيار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} وقوله: {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} وفي مرجع الضمير في قوله: {مِنْهُ}.
فقال بعض العلماء: معنى: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يزورون عن الحقن وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدرهن وازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. بهذا فسره الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده- عفا الله عنه- وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه.
فمن الأول قول ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب:
خليلي عوجا بارك الله فيكما ** على درامي من صدور الركائب

تكن عوجة يجزيكما الله عنده ** بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب

يعنى: اثنيا صدور الركائب إلى دارمي:
ومن الثاني قول الشنفرى.
اقيموا بني أمي صدور مطيكم ** فإني إلى القول سواكم لأميل

وقول الآخر:
أقول لأم زنباع أقيمي ** صدور العيش شطر بني تميم

وقيل: نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة.
كان حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء.
وقيل نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنَّبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا لا يراه النَّبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان. حكي معناه عن عبد الله بن شداد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب، يستحيون من الله.
وقال بعض العلماء: معنى: {يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله، كقوله تعالى عن نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] الآية.
وقيل: كانوا إذا عملوا سوءًا ثنوا صدورهم وغطوا رؤوسهم، يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} الآية.
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة {ألا إنهم تثنوني صدورهم} وتثنوني مضارع اثنوني، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة و{صدورهم} في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل تثنوني، والضمير في قوله: {منه} عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين. وقيل: راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ}
وإذا وجد {ألا} في أول الكلام فأنت تعلم أنها للتنبيه، ومعنى التنبيه أنه أمر يوقظ لك السامع إن كان غافلًا؛ لأنك تحب ألا تفوته كلمة من الكلام الذي تقوله.
وحين تنبهه بغير أداء الأسلوب الذي تريده منه، هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه، ومن بعد ذلك يجيء الكلام الذي تقوله، وقد تهيَّأ ذهن السامع لاستقبال ما تقول.
ف {ألا} إذن هي أداة تنبيه؛ لأن الكلام ستار بين المتكلم والمخاطب، والمخاطب لا يعرف الموضوع الذي ستكلمه فيه، والمتكلم هو الذي يملك زمام الموقف، وهو يهيئ ذهنه لترتيب ما يقول من كلمات، أما المستمع فسوف يفاجأ بالموضوع؛ وحتى لا يفاجأ ولا تضيع منه الفرصة ليلتقط كلمات المتكلم من أولها، فهو ينبه بأداة تنبيه ليستمع.
ويقول الحق سبحانه هنا: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} [هود: 5].
ويقال: ثنيت الشيء أي: طويته، وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض.
وحين يثني الإنسان صدره، فهو يثنيه إلى الأمام ناحية بطنه، ويداري بذلك وجهه، والغرض هنا من مداراة الوجه هو إخفاء الملامح؛ لأن انفعال مواجيد النفس البشرية ينضح على الوجوه؟
وهم كارهون للرسول صلى الله عليه وسلم، وحاقدون عليه؛ ولا يريدون أن يلحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ما على ملامحهم من انفعالات تفضح مواجيدهم الكارهة.
ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلام، حين قال الحق سبحانه على لسان نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7].
ومن البداهة أن نعرف أن الإصبع لا تدخل كلها إلى الأذن، إنما الأنملة تسد فقط فتحة السمع، وعدَّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح عليه السلام، فكل منهم أراد أن يُدخِل إصبعه في أذنه حتى لا يسمع أي دعوة، وهذا دليل كراهية، وهذه شهادة ضدهم؛ لأنهم يفهمون أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].
فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن، ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى إلى الأذن فقد يؤثر في نفسية السامع؛ لأن النفس البشرية أغيار، وقد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلًا، فلماذا خافوا من سماعه؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5].
وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم؛ مداراة للانفعالات التي تحملها هذه الوجوه، وهي انفعالات كراهية، أو أنها قد تكون انفعالات أخرى، فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما يسمع، ولا يريد أن يُظهر الانفعال.
إذن: فالانفعال قد يكون قسريًا، وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يتسللون ناحية بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا القرآن، وكانوا يضبطون بعضهم البعض هنالك، ويدّعي كل منهم أنه إنما مرَّ على بيت النبي صلى لله عليه وسلم مصادفة.
وفي ذلك يقول الشاعر:
اذكُروهُمْ وقد تسلَّل كلُّ ** بعدَ ما انفضَّ مجلسُ السُّمَّارِ

اختلاسًا يسْعَى لحجرةِ طَهَ ** لسَماعِ التنزيلِ في الأسْحَارِ

عُذْرهم حُسْنُهُ فلمّا تَراءَوْا ** عَلَّلوها ببَارزِ الأعْذَارِ

وجاء الحق سبحانه وتعالى هنا في نفس الآية ب {ألا} في قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5].
فهم إن داروا على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هم قادرون على المداراة على رب محمد؟ والذي لا يدركه بصر محمد فربُّ محمد سيُعلمه به.
وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون، فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يعلنون.
والحق سبحانه وتعالى غيب، وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء، ولكن الحق سبحانه يُحصي ولا يُحصَى عليه، فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط؛ لأنه غيب، فهذا ظن خاطئ؛ لأنه يعلم السر والعلن، فهو عليم بذات الصدور، وكلمة {عليم} صيغة مبالغة، وهي ذات في كنهها العلم.
وقول الحق سبحانه: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [هود: 5].
نجد فيه كلمة ذَاتِ وهي تفيد الصحبة، و(ذَاتِ الصُّدُورِ) أي: الأمور المصاحبة للصدور.
ونحن نعلم أن الصدر محل القلب، ومحل الرئة، والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها، وصارت حقائق ثابتة، وعليها تدور حركة الحياة.
ويُقصد ب: {بِذَاتِ الصدور} أي: المعاني التي لا تفارق الصدور، فهي صاحبات دائمة الوجود في تلك الصدور، سواء أكانت حقدًا أو كراهية، أو هي الأحاسيس التي لا تظهر في الحركة العادية، سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة.
وكل الأمور التي يسمونها ذات الصدور، أي: صاحبات الصدور، وهي القلوب، وكأن الجِرْم نفسه وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى، فخواطره من باب أولى معلومة. اهـ.